عادت القارة الأفريقية لتمثّل مجدّداً حجر عثرة أمام جهود إسرائيل لتصدير عدوانها على غزة على الساحة الدولية، تحت لافتة «الدفاع عن النفس»؛ إذ شهدت قمّة «الاتحاد الأفريقي» بنسختها الـ37، والتي عُقدت في أديس أبابا يومَي 17 و18 من الجاري، إجماعاً قاريّاً على إدانة العدوان. وسبق ذلك إفشال خطط مشاركة وفد إسرائيلي في أعمال الدورة العادية للمجلس التنفيذي للاتحاد، منتصف الجاري، على رغم حضوره في العاصمة الإثيوبية، وما تكشّف لاحقاً، بحسب مصادر مطّلعة، عن عقده محادثات موسّعة مع عدد من وزراء خارجية أفارقة بغية إعادة طرح ملفّ عضوية إسرائيل في الاتحاد بصفة مراقب، والحيلولة دون حضور «الصراع في غزة» ضمن أجندة القمّة العادية لرؤساء الدول.وجاءت قمّة الاتحاد وسط مناخ شعبي وحكومي أفريقي رافض تماماً للعدوان الصهيوني، فيما بدأت مجموعة كبيرة من منظّمات المجتمع المدني في أفريقيا والشتات - قبيل انطلاق فعاليات القمّة بأيام قليلة - حملةً موسّعة لحثّ الهيئة القارية على حسم رفضها طلب عضوية إسرائيل. وترى تلك المنظمات، التي قُدّر عددها بأكثر من 150، أن إقدام الاتحاد على خطوة كتلك سيبعث برسالة مهمّة إلى العالم، مفادها أنه يمكن معاقبة إسرائيل على فظاعاتها «حتى من قِبَل قوى ضعيفة». ويمثل كلّ ما تقدّم، إرهاصات لحراك أفريقي أكبر لرفض الطلب الإسرائيلي، في ظلّ قيادة الرئيس الموريتاني، ولد غزواني، الرئيس الحالي للاتحاد، حتى مطلع عام 2025.
«الاتحاد الأفريقي» يعيد فلسطين إلى الواجهة
في خطوة مهمّة ودالّة، عاد رئيس مفوّضية الاتحاد، موسى فقي، خلال اجتماعات وزراء خارجية الهيئة، ليؤكد أن الصراع في غزة يقلق العالم أجمع، معتبراً أن ثمّة حاجة إلى تسوية سياسية، وإلى حماية الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة لا نظير لها في التاريخ، وتلبية مطالبه في إقامة دولته. ولفت إلى دعم «الاتحاد الأفريقي» بكامل أعضائه لجنوب أفريقيا في مقاربتها تجاه الأزمة في غزة، مرحّباً بقرارات «محكمة العدل الدولية» ذات الصلة. وسعى فقي، الذي عُرف في قمّة الاتحاد السابقة (2023) بضلوعه في هندسة تمرير عضوية إسرائيل، إلى طمأنة الحضور بأن الاتحاد «يدين بقوة الهجمات الإسرائيلية غير المسبوقة في تاريخ البشرية»، وأنه يواصل تضامنه مع الشعب الفلسطيني. ومن جهته، تناول الرئيس القمري، غزالي عثماني (رئيس الاتحاد الأفريقي في دورته المنتهية)، العدوان الإسرائيلي باعتباره إبادة تتمّ تحت مرأى ومسمع العالم، وعلى نحو ستكون له عواقب وخيمة على بقيّته. أمّا رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، الذي حضر القمّة ممثّلاً لبلاده التي تتمتّع بوضع مراقب في الاتحاد منذ عام 2013، فطالب الأخير بالدفع إلى وقف الحرب في قطاع غزة، كما وقف توسّع المستوطنات في الضفة الغربية، مؤكداً أن إسرائيل تسعى إلى إطالة القتل لأطول فترة ممكنة خدمةً لبنيامين نتنياهو.
وفي دلالة على أهمية التوجّه الأفريقي المناهض لإسرائيل وجديته، أشار موسى فقي (18 الجاري)، خلال حفل إزاحة الستار عن تمثال الزعيم التنزاني الأسبق، جوليوس نيريري، في مقر الاتحاد، إلى الدور الذي لعبته دار السلام (عاصمة تنزانيا) في دعم حركات التحرّر الأفريقية و»منظّمة التحرير الفلسطينية» والحركات المناظرة في أميركا اللاتينية.
تبدو فرص الاصطفاف خلف جنوب أفريقيا قوية أفريقيّاً، كما يتضح من مسار التعليقات والمواقف المعلنة في قمّة الاتحاد
الاصطفاف خلف جنوب أفريقيا: فرص وتهديدات
أَظهرت الترتيبات السابقة على قمّة رؤساء القارة، تصاعُد الدعم الأفريقي للقضية الفلسطينية من باب دعم مواقف جنوب أفريقيا المؤيّدة لحقوق الشعب الفلسطيني، والمناهضة لإسرائيل. وجاءت قمّة الاتحاد، فيما واصلت بريتوريا مساعيها لوقف العدوان على غزة، من خلال تقديم طلب إلى «محكمة العدل الدولية» للنظر في سبل وقف الحرب، في ظلّ تهديدات إسرائيلية باجتياح مدينة رفح جنوبي القطاع. وعلى رغم رفض المحكمة التماس بريتوريا، فقد رحّبت الرئاسة الجنوب أفريقية (16 الجاري) بقرار «العدل الدولية»، ولا سيما أنه تضمّن تأكيداً لرؤية بريتوريا لناحية أن الوضع الخطير في رفح يتطلّب تطبيقاً «فوريّاً وفعّالاً» للإجراءات المؤقتة التي أشارت إليها المحكمة في حكمها الصادر في 26 كانون الثاني الماضي.
في المقابل، تحيق بتحرّكات جنوب أفريقيا عدّة تهديدات واضحة، وأبرزها خارج نطاق القارة الأفريقية؛ فعلى سبيل المثال، وجّه متابعون جنوب أفارقة (18 الجاري) انتقادات ضمنية إلى «منظمة المؤتمر الإسلامي»، التي سبق لها أن دفعت غامبيا إلى رفع دعوى في «محكمة العدل الدولية» لمقاضاة ميانمار على خلفية «الإبادة بحقّ المسلمين هناك»، لتخلّفها عن التحرّك «لحماية فلسطين والفلسطينيين»، فيما تهدّد إسرائيل بكارثة إبادة بحق مليون ونصف مليون فلسطيني في رفح. وذلك ربّما يتكرّر حال مضيّ جنوب أفريقيا خطوات إلى الأمام في دفع قرار «العدل الدولية» إلى مجلس الأمن للتحرّك ضدّ إسرائيل، إذا لم تلتزم الأخيرة بقرارات الـ26 من كانون الثاني، أو حتى استخدام قرار المحكمة في حال وقفت الولايات المتحدة ضد أيّ تحرّك في مجلس الأمن، للتوصّل إلى قرار في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة.
وهكذا، تبدو فرص الاصطفاف خلف جنوب أفريقيا قوية أفريقيّاً، كما يتضح من مسار التعليقات والمواقف المعلنة في قمّة «الاتحاد الأفريقي» الأخيرة، بينما تتمثّل التهديدات في عدم تمتّع هذا الاصطفاف بدعم «إسلامي - عربي» قوي على النحو الذي كان مرتقباً، وربّما يمثّل بدوره عامل كبح لا يستهان به لجهود بريتوريا التي تتخوّف من وقوع «نكبة ثانية».
على رغم أن قمّة «الاتحاد الأفريقي» كُرّست في الأساس لقضية التعليم، وتجاهلت بشكل واضح مختلف الأزمات الأمنية والسياسية التي تشهدها القارة، وأظهرت هذه المرّة انشقاقات أفريقية - أفريقية لافتة (حتى بين دولة مقرّ الاتحاد وعدد من الدول الأفريقية)، فإن القضية الفلسطينية حضرت بصورة لافتة في كلّ فعالياتها منذ الساعات الأولى للتحضير لاجتماعات المجلس التنفيذي للاتحاد، ومنع وفد إسرائيل من الحضور، وتصاعُد الضغوط الجنوب أفريقية والجزائرية لتجميد ملفّ طلب إسرائيل العضوية في الاتحاد، مروراً بمواقف رئيس مفوّضية الاتحاد، موسى فقي. لكن يُلاحظ حرص الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، الذي حضر القمّة رفقةَ وفد موسّع، على عدم طرح المسألة في أعمال القمّة مباشرة، والاكتفاء ربّما بالمسارات التي تنتهجها حكومته على مستويات ثنائية أفريقيّاً.