نهضت وزارة الخارجية والمغتربين من كبوتها التي ألمّت بها في 4 آب/أغسطس 2020 حين دمّر انفجار مرفأ بيروت «قصر بسترس» التاريخي في الأشرفية والذي واكب الدبلوماسية اللبنانية منذ العام 1947، وبعد تهجير قسري ونزوح للدبلوماسيين الى مبنى مؤقت وراء السراي الحكومي ومقابل تمثال رياض الصلح، قامت وزارة الخارجية التركية بإعادة ترميم المبنى المنهار بدوره حيث «نزح» الدبلوماسيون ومعهم وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب ليتحوّل المبنى الى عصري وقادر على استيعاب مجمل الطاقم الدبلوماسي اللبناني الذي كان مشتتا بين «قصر بسترس» وعدد من الأبنية المجاورة له.
يد السراي تمتد إلى الدبلوماسية اللبنانية
إلّا أن هذه «النقلة» التي كانت خيرا على الوزارة وطاقمها النشيط بالرغم من الأزمات الكثيرة وشحّ الأموال، صارت عرضة بحكم «جيرتها» مع السراي لتأثيرات رئاسة الحكومة، ليس بفعل الجيرة بالطبع، بل بفعل التناقضات السياسية وتضارب المصالح، وخصوصا أن وزارة الخارجية والمغتربين هي من الأكثر عرضة لتدخّلات السياسيين والأحزاب نظرا لتأثيرها في المحافل الدولية ولدى صنّاع القرار في المنظمات الكبرى والدوائر المؤثرة.
حاول وزير الخارجية والمغتربين أقلّه منذ العام 2022 إجراء التشكيلات الدبلوماسية قبل وقوع الشغور الرئاسي، لأن هذه التشكيلات يخضع بعضها لقرار مجلس الوزراء عبر مراسيم [الفئتان الأولى والثانية] وجزء منها يتعلق بالفئة الثالثة ويمكن لوزير الخارجية أن يحلّه شخصيا. لكن التناقضات السياسية وخصوصا بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل حالت دون ذلك، علما أن لباسيل تأثيره الحاضر دوما ليس عبر الدبلوماسيين القدماء وبينهم موجود في مكتب الوزير عبد الله بو حبيب على سبيل المثال لا الحصر، إنّما أيضا عبر «ودائعه» من الدبلوماسيين الجدد في الدورتين السابقتين [2017 و2019] اللتين أشرف عليهما باسيل شخصيا وخصوصا دورة 2017 التي بات دبلوماسيوها الشباب موزعين على البعثات في الخارج، ولباسيل كلمته في التعيينات في الخارج وهو الذي مارس ضغوطا مضنية لتعيين الدبلوماسي هادي هاشم قائما بالأعمال بالوكالة في نيويورك بعد معارضة طويلة من ميقاتي، سرعان ما تبددت على حين غفلة بعد أن استدعى بو حبيب مندوبة لبنان الدائمة هناك جان مراد لأنها عبّرت عن موقف قريب من حق لبنان في المقاومة في جنوب لبنان في توقيت حساس [آب/ أغسطس 2023] هو التجديد سنة إضافية لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان أي «اليونيفيل».
بو حبيب وشميطلي يتبعان فن الممكن
وسط هذا المناخ يقوم بو حبيب والطاقم الدبلوماسي فضلا عن الطاقم الاداري بقيادة الأمين العام السفير هاني شميطلي المثير للجدل أيضا، بضبط الوزارة بأفضل الممكن، ونجح بو حبيب في تقديم صورة دبلوماسية متماسكة وحضور للبنان في المحافل الدولية والمؤتمرات فلا يغيب عن أي منها [إلّا إذا تمّ تغييبه كما حصل في بعض الاجتماعات العربية، وفي استبعاد ميقاتي له في زيارات رئيسية منها لوزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون وكبير مستشاري الرئيس بايدن آموس هوكشتاين الذي يقوم بوساطة تخص القرار 1701 وهو في صلب صلاحيات وزارة الخارجية].
بينما، يضبط شميطلي الإيقاع الإداري على طريقة «العصا والجزرة» وبعدما كاد «يطير» سفيرا بعد اشتباكه مع وزيرة الخارجية بالوكالة زينة عكر على تركيب باب خشبي لـ «الأمانة العامة»، عاد شميطلي وثبّت موقعه بشطارته ولأنه ينتمي الى الطائفة السنية أولا وأخيرا وهذا ليس تفصيلا في حياة الدبلوماسي ولا يخص شميطلي فحسب، بل إن لكلّ دبلوماسي مرجعيته السياسية والدينية ومن ليست له مرجعية تتم الإطاحة به بأي شكل من الأشكال وجان مراد مثالا [بالرغم من قربها من التيار الوطني الحر] والسفير علي المولى مثال حي آخر بفعل الظلم الذي لحق به إبان عهد باسيل، بحيث اتهم بتسريب تقرير لصحيفة «الأخبار» تبيّن فيما بعد أن مسرّبه كان أحد مستشاري عهد الرئيس ميشال عون، وبعد أن تمّ التشهير بالمولى [يسجّل حينها دخول جهاز أمني الى مبنى الوزارة لأول مرة في تاريخها] ولمّا برزت الحقيقة في الأروقة الدبلوماسية والإعلامية لم يتحدث أحد بالموضوع. ولا ننسى الشائعات الكثيرة التي طاولت سفيرة لبنان في ايطاليا ميرا ضاهر والتي تبددت من دون أية اثباتات بحقها. وثمة أمثلة أخرى كثيرة عن أهمية المحسوبيات في الوزارة وهو أمر تاريخي لا يخص عهدا لوحده لكننا لن نذكرها بسبب تحفّظات الأشخاص المعنيين وتأثيرها السلبي عليهم، وإن ذكرنا مراد والمولى وضاهر فلأن قضاياهم شغلت الرأي العام ووسائل الإعلام لفترة.
تأثير الشغور الرئاسي
في الوضع الراهن، وبالرغم من عمل الوزارة المتواصل ليلا ونهارا من أجل تمتين موقف لبنان الدبلوماسي، إلّا أن الشغور الرئاسي يؤثر عليها بشكل سلبي وخصوصا ان رئيس الجمهورية اللبنانية هو الذي يعتمد السفراء الأجانب في لبنان، ومعظم السفراء الذين جاءوا لبنان في فترة الشغور لا يزالون سفراء معيّنين لأنهم لم يقدّموا أوراق اعتمادهم لرئيس الجمهورية:
Ambassador Designate
وفي دول عديدة لا يمارس السفراء المعينون صلاحياتهم كاملة ولا يقومون بزيارات للسفراء والزملاء إلّا بعد تقديم أوراق اعتمادهم، فيما يسمح لهم بذلك في دول أخرى بمجرد أن قدموا أوراق اعتمادهم لوزير الخارجية فيمارسون صلاحياتهم ولكن حين يقدّمون أوراق اعتمادهم لرئيس الجمهورية يصبحون سفراء مكتملي الصلاحيات أي:
Full Ambassador
كل السفراء الذين تمّ تعيينهم في لبنان وسط الشغور الرئاسي يقومون بأعمالهم كقائمين بالأعمال لأنهم لم يتمكنوا من تقديم أوراق اعتمادهم.
السفراء من خارج الملاك
بالإضافة الى صعوبة اعتماد السفراء الأجانب، يوجد قرابة الثمانية سفراء من خارج الملاك يعينهم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بمراسيم تصدر من مجلس الوزراء في بداية كل عهد رئاسي، هؤلاء يعتبرون مستقيلين تلقائيا بعد انتهاء العهد الذي اختارهم، لكنهم يبقون بمناصبهم بفعل الأمر الواقع الى حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية. بالنسبة للسفراء من خارج الملاك، فإن بقائهم يحتّم صدور مرسوم في مجلس الوزراء عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. بالنسبة الى السفراء الموجودين حاليا من خارج الملاك الإداري فهم ستة: فؤاد دندن في الإمارات العربية المتحدة، محمد حسن في الجزائر، فوزي كبارة في السعودية، مصطفى أديب في ألمانيا، فريد الخازن في الفاتيكان، وإلياس لبّس في فنزويلا. وثمة عدد من السفراء من خارج الملاك تقاعدوا ولم يتم تعيين أحد مكانهم منهم: سحر بعاصيري لدى منظمة اليونسكو، خضر حلوة في الكويت، أمل مدللي وهي تقاعدت وكانت مندوبة لبنان الدائمة في الأمم المتحدة وحلّت مكان نواف سلام الذي كان بدوره سفيرا من خارج الملاك، غابريال عيسى في الولايات المتحدة الأميركية، أما ترايسي شمعون التي عيّنت في عمّان فقد قدمت استقالتها ولم يتم تعيين أحد مكانها لغاية الآن، علما أنه يحق للحكومة أن تعين من خارج الملاك لغاية الـ15 سفيرا.
المشاكل في الإدارة المركزية: المديريات فارغة من سفرائها
في الإدارة، فإن معظم السفراء والدبلوماسيين القدماء غادروا مديرياتهم في مهام، ما فرّغ الوزارة من سفرائها فلم يعد فيها اليوم سوى مدير الشؤون الإدارية كنج الحجل والسفير علي المولى والأمين العام هاني شميطلي، وهو أمر غير مأنوس اثناء انتظام العمل الدبلوماسي، لأن هؤلاء المدراء وهم فئة أولى معينين بمراسيم من مجلس الوزراء، وهذا أدّى لأن يدير المهام دبلوماسيون مستشارون في افضل الاحوال. يحصل هذا الأمر أيضا لوجود العديد من السفراء في الخارج وقد تخطّت مدة خدمتهم الـ10 أعوام المنصوص عنها قانونا والتي من المسموح تمديدها سنة تلو السنة بقرارات من مجلس الوزراء لغاية الـ15 عاما. أما إذا كان مستشارا بلقب سفير، أي فئة ثانية ويأخذ أوراق اعتماد، ويحمل لقب سفير فيعتبر سفيرا بالنسبة للدولة المضيفة، ولكنه يبقى مستشارا بلقب سفير بالنسبة للبنان ومدته في الخارج هي 7 أعوام كحد أقصى يعود بعدها الى الإدارة المركزية.
ويروي أحد الدبلوماسيين أن أحد زملائه موجود في الخارج منذ 17 عاما، لكنّه رفض ذكر اسمه، ويعتبر ذلك مخالفة قانونية حتى بالنصوص هذا الأمر يؤدي الى ظلم كبير للدبلوماسيين الموجودين في الإدارة وبعضهم يستمر منذ 8 أعوام بينما لا يجب أن تتعدّى فترة بقاء الدبلوماسيين من الفئات كلها لأكثر من سنتين فقط في الإدارة وكل ذلك بسبب عرقلة التشكيلات الدبلوماسية بسبب الكيدية السياسية التي سبق وذكرناها ما يتسبب بعدم الانتظام. للمعلومات بأن، الفئتين الثانية والثالثة أي المستشارين وحاملي رتبة سكرتير يحق لهم البقاء في الخارج 7 أعوام كحدّ أقصى.
تراكم في الخارج ومشكلات مالية
تكمن المشكلة بأن حالة التراكم الموجودة في الخارج ستؤدي الى معضلة أيضا حتى بعد انتخاب رئيس للجمهورية، لأن التراكم صار كبيرا ما يحتاج الى خطّة منظمة لإعادة السفراء والدبلوماسيين من الفئات كلها واستبدالهم بآخرين. حتى تعيين بعض السفراء بمهام لم يبدد مشاكلهم فبعضهم لم يقبض منذ أشهر طويلة بسبب إشكالية احتساب المهام ودولار الصرف، بينما من هو في الخارج يقبض بشكل عادي مع تأخّر طفيف لا يتعدّى الشهرين، من دون اغفال معاناة السفراء في الخارج بسبب تقليص نفقاتهم ونقل أماكن سكنهم الى شقق متواضعة احيانا بفعل سياسة تقليص النفقات التي اعتمدتها وزيارة الخارجية والمغتربين منذ العام 2022. وهكذا يظلم «جماعة المهمات» مرتين الأولى بسبب عدم تشكيلهم للخارج والثانية بسبب عدم قبض مستحقاتهم التي تأتيهم ناقصة في كثير من الأحيان إذ ينتقص منها 40 الى 45 في المئة.
في الخارج، تعيش البعثات الدبلوماسية حالة من الإرباك مع تصاعد الحديث كل فترة عن قرار بإقفال بعضها لتقليص النفقات، ويعيش الدبلوماسيون في الخارج أزمة في التحويلات لرواتبهم وكيفية احتسابها من قبل وزراة المالية وتأخّر في القبض يدوم أشهرا بقرار من مصرف لبنان.
الحفاظ على صلاحيات الوزارة وسط الشغور
وسط كل هذه المشاكل يحاول وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب أن يمارس «فنّ الممكن» للحفاظ على هيبة الوزارة وصلاحياتها، وآخر تعاميمه للبعثات الدبلوماسية في الخارج يتعلق بعدم جواز تخطّي وزارة الخارجية والمغتربين من قبل الوفود النيابية والوزارية اللبنانية التي «تسوح» من بلد الى آخر وتدّعي أنها تتكلم بإسم لبنان، وذهب البعض من هذه الوفود دون الرجوع الى وزارة الخارجية والمغتربين ومما ورد في التعميم: (…)، نظرا للمراجعات التي تتلقاها هذه الوزارة من بعض البعثات اللبنانية في الخارج حول طلبات تأتيهم مباشرة من رسميين لبنانيين لتقديم مساعدة لوجستية، وترتيب مواعيد ولقاءات لهم مع جهات رسمية في دول اعتمادهم، ولمّا كان تنظيم ومواكبة الزيارات لرسميين لبنانيين مكلّفين بمهام رسمية يقع في صلب عمل هذه البعثات، شرط إعلام وزارة الخارجية والمغتربين مسبقا وبصورة خطية من قبل الإدارة التي يمثلها الزائر الرسمي اللبناني أو من قبله شخصيا، يطلب إليكم إبلاغ كافة المعنيين بهذه الزيارات لدى تواصلهم مباشرة معكم، ضرورة اتباع الاصول لجهة ابلاغ وزارة الخارجية والمغتربين مسبقا بطلبهم، وذلك قبل اتخاذ أية خطوات أو اجراءات عملانية على مستوى البعثة، مع التذكير بوجوب إيداع الوزارة التقارير اللازمة حول مجريات الزيارات ومضمونها إثر انتهائها.
مارلين خليفة - اللواء